الخميس، 18 أكتوبر 2012

قرص شمسي




يبدأ أسبوعها حين ينتهي الخبز, تقف بين يدي ربها تصلي عشاء الجمعة في خشوع سائلة إياه أن يمنحها القوة غدا ,  تخرج الدقيق من جواله و تضعه في المنخل و تهزه برفق في البداية ثم لا تلبث أن تهزه بقوة أكبر حتى ينفصل المسحوق الأبيض أسفل  المنخل بينما تقبع الردة داخله  و تقوم من ليلتها لتصنع العصيدة التي ستكون نواة العجين غدا.
  و أخيرا تلقي رأسها على الوسادة الخشنة التي غادرها القطن من فم صنعه الزمن  و ابتلعها فنامت كطفل بريء لمن يراها و لكنها عجوز بائس  غادرها الحلم و غادرتها الكوابيس
و قبل أن يصيح الديك ليوقظ الموتى كانت هي أمام إنائها الفخاري الضخم  ترُب عجينها تضربه بقوة بكلتا يديها الخائضتين فيه حتى الكوعين ,كلما رفعت يديها شدها العجين للأسفل فتعود و تضربه هكذا ضربات متوالية حتى امتزج ,  تتجه نحو الفرن الطينية ذات التجويف الأمامي الذي تضع منه الأرغفة و الكوة الجانبية التي تضع فيها الأوراق و مخلفات الأخشاب و الأنعام (تسميه وقيد ) ثم تشعل عود الثقاب و تلقيه داخل الكوة تتعالى ألسنة اللهب و يتصاعد الدخان حتى يصل لعينيها فتتساقط دموعها على العجين بينما يديها تمسكه و تضعه على هيئة دوائر مصمتة فوق الأطباق الطينية  التي افترشتها بالردة .
الشمس الآن استيقظت من سباتها و تستعد للعمل عليها الآن تخمير محصولها  , تنظر إلى السماء في قلق و تسألها أن تكون رحيمة و لا تصنع غيوما هذا الصباح , كم هي شاقة عملية الخبز في  الصيف تواجه حرارة الفرن و في الشتاء تقاتل الغيوم
تسند ظهرها إلى الجدار و هي تراقب عجينها ينمو و ينتفخ رويدا رويدا و ما إن يكتمل تخميره حتى تنزغه بإبرة على أطرافه الدائرية ,تلك الإبرة هي ما تعطيه ملامحه الحقيقية و تلقيه داخل الآتون المشتعل بواسطة عصا طويلة تنتهي بقرص خشبي تضع عليه رغيفها النيء
تنتظر بجوار فرنها الحبيب الذي كان ابنها الأكبر يريد أن يهدمه و  تعيش فقط على التهام الخبز الذي يباع في مخابز المدينة , لكنها نهرته و قاتلته , هو يشفق عليها من نوائب العمر و لفحات اللهب و هي تؤمن أن الخبز لا يكون خبزا إلا حين يمتزج بالطين .
العجين داخل الفرن يتغير لونه ,النار تصبغه لونا ذهبيا , تخرج رغيفا بواسطة عصاها تقلبه , فتجده لا يحقق طموحها من اللون الذي تريده فتعيده إلى الفرن و هكذا تعيد الكرة كفتاة عشرينية تقتلها الحيرة في اختيار صبغة شعر
حفيدتها التي أصرت على المبيت ليلتها معها ما ان استيقظت حتى ركضت نحو جدتها تجلس تحت قدميها تنظر إليها بلهفة و تمني نفسها بجائزة فتبتسم لها الجدة ابتسامة مطمئنة ابتسامة قادمة من أعوام مضت و لم تجف فتدب في الصبية البهجة  , ينادي الظهر مؤذنا أن الشمس صارت فوق الرءوس فتخرج رغيفا آخر تقلبه و تشعر أخيرا بالرضا
تمد عصاها لداخل تجويف الفرن و تخرج رغيفا صغيرا  في حجم كف اليد (تسميه قرصا ) اعتادت كل اسبوع أن تصنع مثله لحفيدتها , وضعته أمام الصغيرة التي اغرورقت عيناها بالفرحة فمدت يديها نحو كتف جدتها تجذبه من ردائها الأسود في لون السنين حتى دنت برأسها للصغيرة التي طبعت على وجنتها اليابسة بقبلة رقيقة بينما صوتها الطفولي يقول : " بحبك  جوي يا ستي "
حينها رفعت عينيها إلى السماء تدعو الله أن يمد اجلها للسبت القادم كي تصنع قرص خبز آخر يتحدى الشمس

19 التعليقات:

Unknown يقول...

تصوير رائع لهذه العادة والتى لاأعرف هل مازالت موجودة فى أريافنا أم انتهت وانقرضت مثل عادات كثيرة كانت تميز الريف
الجميل...
ولكن قلمك أحيا بداخلنا كوامن العمر الجميل...

تحياتى وتقديرى لإبداعك المتميز
حفظك الله ورعاك

Unknown يقول...

تصوير رائع لهذه العادة والتى لاأعرف هل مازالت موجودة فى أريافنا أم انتهت وانقرضت مثل عادات كثيرة كانت تميز الريف
الجميل...
ولكن قلمك أحيا بداخلنا كوامن العمر الجميل...

تحياتى وتقديرى لإبداعك المتميز
حفظك الله ورعاك

eng_semsem يقول...

والله افتكرت ستي واحلى سهره وهي بتخبز العيش ايام زمان وتكمل السهره باحلى باذنجان مشوي في الفرن عشان ناكل بابا غنوج ههههههههههه
ربنا يديها الصحه ويشفيها
تسلم ايديك يا مصطفى

شمس النهار يقول...

جميلة جدا
تصدق كنت شامه ريحت الفرن وريحة الخبيز
من كتر الوصف الرقيق الرائع الدقيق

ابراهيم رزق يقول...

الللللللللللللللللللللللللللللللله
الله الله يا مصطفى
صورة واقعية جميلة شفتها او شفت زيها كثير
لكن انتت رسمتها و حببتنى فيها
ومش كده بس
حببتنى فى العيش الشمسى وانا تقريبا مش بحبه
بجد بجد جميلة يا مصطفى
قد ايه الجده دى جميلة
من اكثر الاشياء اللى كانت بتلفت نظرى فى الصعيد
انتظار الستات قدام العيش المقرص فى انتظار الشمس عشان تخمر العيش
ابدعت يا مصطفى

تحياتى

ليلى الصباحى.. lolocat يقول...

لقد رسمت تابلوه رائع بكلماتك عن العجوز الطيبة جعلتنى اتخيلها واصورها بعينى كأنها أمامى

شعرت بالحب الذى يتدفق فى كلماتك تريد ان تدور على كل قارىء لقصتك تسقيه من ريان هذا الحب والعشق لأمرأة تصنع تاريخ

مثل هذه السيدة الفاضلة صنعت تاريخ امم بعشقها لتراثها واصالتها
استخدمت رمزيات اكثر من رائعة لن استطيع نقدها لكن استشعرت روعتها وجمالها

احسنت سيف التدوين
بارك الله فيك اخى
تحياتى بحجم السماء

هبة فاروق يقول...

تعمقت فى القصه وشدتنى لاخر حرف تصويرك وسردك للأحداث رااائع
مبدع يا دكتور

aya mohamed يقول...

:(((((
يا الله

reemaas يقول...

يااااااااااااه

حلو اوى التصوير ده

اد ايه الصورة حلوة وسط الغلب وسواد التوب وسواد السنين اد ايه الصورة حلوة ومشرقة جدا

البوست ده مشرق ده وصفه بالنسبالى

باحث عن حب يقول...

رجعتنى للبلد يا درش

مش لاقى وصف للابداعك فى التصوير
ده
الله اكبر
كلامك
رائع
بجد

اول زياره لمدونتك
يا سيف وحقك عليا على تقصيرى

بس بجد تحفه
كل سنه وانت طيب

Unknown يقول...

السلام عليكم...
جميل جدا..
ليست القصة فقط... بل ذلك القرص الذهبي أيضا..
أعادتني قصتك هذه سنوات للوراء حينما كنت أتابع جدتي رحمها الله وهي تصنع "الخبز الفلاحي" داخل فرنها الطيني المبني تحت السلم الطيني في البيت المبني من الطين...
رحم الله أجدادنا ورحم الله بيوت وأفران الطين التي انقرضت.. ورحمنا الله!
تحياتي لقلمك المبدع.

حنين محمد يقول...

مساء الغاردينيا أستاذ مصطفى
ياالله ماأروع وصفك وربي كأنني أراها بعيني
لم يحصل أن رأيتها سوى في المسلسلات
ولكن بحرفك الرائع جعلتني أرى لوحة حقيقية :) "
؛؛
؛
كل عام وأنت بخير وسعادة
لروحك عبق الغاردينيا
كانت هنا
Reemaas

رشيد أمديون يقول...

تدري يا صديقي أن المصور يلتقط الصور للمشاهد التي تعجبه، لكن الكاتب البارع هو من يصور المشاهد بحرفه ومخيلته..

وإن الروعة تكمن دائما في تصوير سلوكيات وعادات قديمة، فهي تجد الحياة في بطن القصة، والنص أكبر محافظ على هذه الثروة من التقاليد أو لنقل الذكريات.

أجدت وبرعت.

رشيد أمديون
همسات الروح والخاطر

زينة زيدان يقول...

قصة تحميل تصوير دقيق لكل حركة وكل تفصيل وكأننا نشاهد مقطع فيديو..
تحمل تراث و ذكريات جميلة نعتز بها
ونتعهد بحفظها..

تحمل أمل في غد ومستقبل ننظر إليه ونتمنى أن ينتظرنا

راقية الفكر

لــــ زهــــــراء ــــولا يقول...

وصف دقيق جداااااااااااااااا وسرد رائع لتفاصيل دافئة كدفء رغيف يحمل من الحب اكثر ما يحمل من الشبع


لولا

حنين محمد يقول...

مساء الغاردينيا أستاذ مصطفى
كل عام وأنت بحب وسعادة
كل عام والحب يطوق قلبك بين أحضانه
كل عام والسعادة رفيقة أيامك "
؛؛
؛
عيد سعيد
لروحك عبق الغاردينيا
كانت هنا
reemaas

رؤى عليوة يقول...

جميلة اوى

الجدات يتمتعن بكم من الحنان لا مثيل له

من كام يوم كنا نتذكر انا واخى كيف كانت سندوتشات جدتى لنا عندما نؤثر الذهاب لها فى فسحة المدرسة :)

ربنا ما يحرمنا منهم

دمت بخير وكل عام وانت بخير عيد سعيد

العاب فلاش يقول...

well done

momken يقول...

....

الله ما احلى التفاصيل
خصوصا لو كان الامر غريب عنا
فالعيش الشمسى نسمع عنه
ولا نملك طرف لمسه او معرفه تفاصيل خبزة
التى تحمل من العناء قدر محبه من سيأكله
وتبث لهم فى تلك اللقمه من الحنان والاهتمام ما لا تبثه لهم بالكلام

اؤمن تمام العلم ان الغرق فى المحليه والاصاله هو طريق العالميه والمعاصره
امتعنا جداً بالتفاصيل الصعيديه فهى بحق تحمل كل متعه الاصاله

تحياتى ايها المبدعون

.....