ما زلت أذكر حين صعد خالي فوق السلم الخشبي ليصل لسطح بيت جدي القديم الصامد المتشقق و ينظر نحوي بأسفل ينتظرني كي أحذو حذوه فما يناله مني غير نظرات خائفة , أخشى المرتفعات دوما أنظر لأسفل
السلم الضعيف تحت أقدامي ألصغيرة سيهوى بي , كل تلك الهواجس تطاردني و هو يمد يديه ينتظرني أصعد
- خايف من الطيارات يا خالي
ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي استيقظنا فيه على صوت الطائرة و هي تسقط فوق بلدة مجاورة و تحطم إحدى البيوت ،كان صوتها مفزعا بحق
- الطيارة فوق في السما و انت مهما عليت مش هتوصلها
هكذا قال لي كي يحمسني لكن الخوف من السقوط أعظم من الوقوف على السطح , ثم ما الذي يمكن أن يحتويه سطح بيت قديم و يثير طفلا مثلي ،كلا بلا شك هو يحتوي على أعظم شيء يثير عيون صغيرة أتت للعالم الكبير منذ وقت قصير إنه ( الفضول )
ربما كان بأعلى عالم مختلف ، ما الذي يمنع أن تنمو الرياحين فوق السطح , بعض الأرانب ذات الوبر الأبيض بالتأكيد تلهو جيئة و ذهابا , أمي كانت تربي الأرانب فوق سطح منزلنا لكن سطح بيتنا له سور يمنع قفز الأرانب بعيدا لذا نسميه (داير)
أما سطح بيت جدي فهو بلا سور , لكنني صغير على فهم كل تلك الحقائق و لا أعلم حقيقة ماذا بأعلى
- ابعد شوية من تحت السلم
قالها خالي بلهجة آمرة فما كان مني إلا أن ابتعدت , و بدأ في إلقاء أشياء من أعلى فكرت قليلا , أستطيع أن أتصور شكل الحياة فوق السطح حين أرى ما يرميه , ستخبرني تلك الأشياء عم إن كان هناك كوخ بأعلى مثل الذي رأيته في التلفاز في قصة الثعلب و الثلاث خنازير , أم أن جيري الفأر الصغير يتلذذ في الهرب من توم و يختبىء بأحد الشقوق ,كلها أشياء قد تتضح حين أرى ما يلقيه لكنه أمرني ان ابقى بعيدا
لكن الفضول يقتلني و ما زال خوفي أكبر من فضولي فاستندت إلى الحائط و جلست أراقب الكتل الخشبية القديمة الضخمة لأثاث قد هلك , ما الذي تفعله مثل تلك الأشياء بأعلى, إن مثلها بالتأكيد مكانه في أسفل الأسفلين , كيف تكون هذه الأشياء أول ما تبصره الشمس فوق سطح جدي , راقبت الأخشاب القديمة التي تفوح منها رائحة السنين و تسكنها حشرات تستلهم من عبقه حياتها و أنا ما زلت مندهشا و ما يزيد فضولي هو لماذا خالي يلقي تلك الأخشاب الآن ؟ هل يئن السطح بما حملوه به؟
أخيرا شرع خالي في الهبوط بواسطة السلم الخشبي العتيق الغير ممهد , ينزل برفق يرى مواضع قدميه درجة بعد أخرى حتى استوى على الأرض , فجمع الأخشاب و بدأ يضعها في (جروانة ) بها بعض الرماد
و في المساء حين استاءت الشمس من ذنوب العباد التي اقترفوها على ضوئها فانسحبت حتى تمنح في الليل مجالا للتوبة , و لكن ليالي الشتاء الطويلة باردة , و التوبة تحتاج لقلب دافىء
- كياح (1) يرقِّد الكلب النباح
هكذا كانت تقول جدتي دائما و هي ترتدي كل ما أوتيت من ثياب و أسنانها تصطك و بعض الدخان يخرج مع أنفاسها , جلست بجوار الجروانة التي أعدها لها خالي و أوقد النار في الاثاث القديم .
و جلسنا بجوار المدفأة التي تحمل في أحشائها ذكريات بيت عتيق , نحرق تلك الذكريات كي ندفأ .
كفوفنا تتكاثر على النار و نعبىء من الدفء غرفا بأيدينا و نشربه , ثم نصنع ذلك الصوت الذي يبعث فينا الدفء حين تحتك أناملنا و أكفنا بعضها ببعض .
أتذكر ما كنا نفعله في المدرسة حين نحك القلم بشعرنا و نقربه من قصاصات الورق فتنجذب إليه , لم أعترف بالنظريات العلمية عن الشحنات الكهربية , كل ما أعرفه أن الاحتكاك يصنع السحر
أحك يدي بيدي بقوة فتبعث فيَّ الدفء و انظر إلى جدتي التي تسألنا من يريد أن يشرب زنجبيلا , تضع الكنكة على النار المتقدة من جذوع الأثاث , نراقبها بصمت
أحتسي جرعة من الزنجبيل فأبعد الكوب عن فمي و أهتف
- مشطشط يا ستي
- علشان كده بيدفي
أذكر المدرس حين تلا علينا قوله تعالى ( و يسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ) أخيرا عرفت الزنجبيل لكن كيف يكون الخمر في الجنة مخلوطا بالزنجبيل (المشطشط) هتفت بجدتي :
- هي الجنة برد جوي يا ستي ؟ بيشربوا ليه هناك زنجبيل
ضحك خالي و ربتت جدتي على كتفي و قالت لي :
- اشرب بوج تاني منه و هتعرف ليا , استطعمه و هتلاقي حاجة غريبة جواك , الجنزبيل مش بيدفي علشان مشطشط بس لكن بيدفي برضك علشان بيقدر يوصل لروحك
-----------------------------------------------------
(1)كياح : شهر كيهك القبطي