يبدأ أسبوعها حين ينتهي الخبز, تقف بين يدي ربها تصلي عشاء الجمعة في خشوع سائلة إياه أن يمنحها القوة غدا , تخرج الدقيق من جواله و تضعه في المنخل و تهزه برفق في البداية ثم لا تلبث أن تهزه بقوة أكبر حتى ينفصل المسحوق الأبيض أسفل المنخل بينما تقبع الردة داخله و تقوم من ليلتها لتصنع العصيدة التي ستكون نواة العجين غدا.
و أخيرا تلقي رأسها على الوسادة الخشنة التي غادرها القطن من فم صنعه الزمن و ابتلعها فنامت كطفل بريء لمن يراها و لكنها عجوز بائس غادرها الحلم و غادرتها الكوابيس
و قبل أن يصيح الديك ليوقظ الموتى كانت هي أمام إنائها الفخاري الضخم ترُب عجينها تضربه بقوة بكلتا يديها الخائضتين فيه حتى الكوعين ,كلما رفعت يديها شدها العجين للأسفل فتعود و تضربه هكذا ضربات متوالية حتى امتزج , تتجه نحو الفرن الطينية ذات التجويف الأمامي الذي تضع منه الأرغفة و الكوة الجانبية التي تضع فيها الأوراق و مخلفات الأخشاب و الأنعام (تسميه وقيد ) ثم تشعل عود الثقاب و تلقيه داخل الكوة تتعالى ألسنة اللهب و يتصاعد الدخان حتى يصل لعينيها فتتساقط دموعها على العجين بينما يديها تمسكه و تضعه على هيئة دوائر مصمتة فوق الأطباق الطينية التي افترشتها بالردة .
الشمس الآن استيقظت من سباتها و تستعد للعمل عليها الآن تخمير محصولها , تنظر إلى السماء في قلق و تسألها أن تكون رحيمة و لا تصنع غيوما هذا الصباح , كم هي شاقة عملية الخبز في الصيف تواجه حرارة الفرن و في الشتاء تقاتل الغيوم
تسند ظهرها إلى الجدار و هي تراقب عجينها ينمو و ينتفخ رويدا رويدا و ما إن يكتمل تخميره حتى تنزغه بإبرة على أطرافه الدائرية ,تلك الإبرة هي ما تعطيه ملامحه الحقيقية و تلقيه داخل الآتون المشتعل بواسطة عصا طويلة تنتهي بقرص خشبي تضع عليه رغيفها النيء
تنتظر بجوار فرنها الحبيب الذي كان ابنها الأكبر يريد أن يهدمه و تعيش فقط على التهام الخبز الذي يباع في مخابز المدينة , لكنها نهرته و قاتلته , هو يشفق عليها من نوائب العمر و لفحات اللهب و هي تؤمن أن الخبز لا يكون خبزا إلا حين يمتزج بالطين .
العجين داخل الفرن يتغير لونه ,النار تصبغه لونا ذهبيا , تخرج رغيفا بواسطة عصاها تقلبه , فتجده لا يحقق طموحها من اللون الذي تريده فتعيده إلى الفرن و هكذا تعيد الكرة كفتاة عشرينية تقتلها الحيرة في اختيار صبغة شعر
حفيدتها التي أصرت على المبيت ليلتها معها ما ان استيقظت حتى ركضت نحو جدتها تجلس تحت قدميها تنظر إليها بلهفة و تمني نفسها بجائزة فتبتسم لها الجدة ابتسامة مطمئنة ابتسامة قادمة من أعوام مضت و لم تجف فتدب في الصبية البهجة , ينادي الظهر مؤذنا أن الشمس صارت فوق الرءوس فتخرج رغيفا آخر تقلبه و تشعر أخيرا بالرضا
تمد عصاها لداخل تجويف الفرن و تخرج رغيفا صغيرا في حجم كف اليد (تسميه قرصا ) اعتادت كل اسبوع أن تصنع مثله لحفيدتها , وضعته أمام الصغيرة التي اغرورقت عيناها بالفرحة فمدت يديها نحو كتف جدتها تجذبه من ردائها الأسود في لون السنين حتى دنت برأسها للصغيرة التي طبعت على وجنتها اليابسة بقبلة رقيقة بينما صوتها الطفولي يقول : " بحبك جوي يا ستي "
حينها رفعت عينيها إلى السماء تدعو الله أن يمد اجلها للسبت القادم كي تصنع قرص خبز آخر يتحدى الشمس