كنت أجلس على إحدى الصخور الجافة الناتئة على الشاطىء أراقبه و هو يضع طعمه في الشص و يلقيه في البحيرة محاولا اجتذاب الأسماك إليه , كانت البحيرة يومها مزدحمة بالصيادين , البعض على زوراق و البعض على قوارب بينما ابي يجلس على الشاطىء و يلقي شصه بقوة
-هل الأسماك تعرف أنه سيتم اصطيادها؟
- نعم
- و مع ذلك لا تهرب من البحيرة؟
لم يجبني أبي لكنه نظر لي نظرة خاوية من المعاني بينما يشد الشص إليه بعد اهتزازه لا بد أن هناك سمكة بائسة عرفت طريقها إليه .
كررت السؤال مرة أخرى :
- أبتِ, لماذا لا تهرب الأسماك من البحيرة ما دامت تعرف مصيرها؟
- لأنها ستموت إن هربت من الماء
- و إن بقت سيتم اصطيادها !!
صمت و لم يجبني و حمل على كتفه ذلك المقطف الذي يحتوي على الأسماك التي قاسى في اصطيادها , كنا نسير في اتجاه المنزل إلا أنه وقف عند أحد الحوانيت و قال للبائع :
- أريد زجاجة زيت , لكن ليس لدي مال , هل تأخذ سمكا بثمن الزيت؟
- من أين أحضرت السمك؟
- من البحيرة
- أسماك البحيرة ميتة
- كلا , كانت تتقافز في الماء و تغوص لم تكن ميتة يا سيدي , لم تكن حزينة أيضا بل كانت تلهو
- اذا هي غبية ,تلهو و حولها كل هؤلاء الصيادين؟ لا أريد سمكا غبيا حتى لا يصيبني من غبائه شيء
أكملنا طريقنا نحو المنزل و لم نحصل على الزيت , كل بائعي الزيت لا يحبون السمك . كانت أمي تحاول أن تبتسم حين وصلنا شعرت بمحاولتها تلك و هي تضغط على أسنانها , بينما أبي يكشف الغطاء عن الأسماك و يقول لأمي:
- ما فائدة السمك بلا زيت؟
- يمكن ان نقوم بشوائه
- شواء؟
شرعت أمي في شواء السمك بينما تصاعد الدخان ليعم الأنحاء , تصاعد الدخان و تطاير ليصل لكل المنطقة
- امي , ما تلك الرائحة؟
- انها رائحة احتراق السمك
- احب رائحته كثيرا يا اماه ,الاحتراق شهي
لم أتذوق طعاما مثل ذلك الطعام من قبل , أعجبني كثيرا حتى انني قلت لأبي :
- للاحتراق سحر خاص يا أبتِ , لقد بعث جمال الأسماك بعد ان ظننتها ماتت , قلت لي ان الذي يموت تفوح منه رائحة نتنة لكن الاحتراق يصنع حياة جديدة للموتى
- كلا يا بني , الموتى لا يعودون لكن احتراقهم يعيد الحياة للأحياء , حين ترى الرماد تشعر بالحياة
نظرت مندهشا نحوه قائلا
- و هل أنا بحاجة إلى الرماد كي أشعر بالحياة؟ ما دمت حيا فلأحيا
اقترب من جبهتي واحتضنني كي يمنحني الدفء و قبلني كي يمنحني بعض الحنان ثم ابتسم و قال :
- لست بحاجة إلى الرماد , يكفيك قلبا لا يلوثه اثم و قلب آخر يبتسم حين يراك.
لم نكن ندري أن الرائحة قد وصلت لبائع الزيت الذي حاول أن يكمم أنفه حتى لا يشتم رائحة الغباء المتطايرة من السمك وحين لم يستطع التنفس أغلق حانوته و ظل يركض بحثا عن هواء طلق حتى وصل للبحيرة جلس على شاطئها يلاحظ الصيادين و هم يلقون الشباك في الماء قبل أن يحدث نفسه :
- أموات يقتلون موتى
ثم ألقى برأسه على رمال الشاطىء ينظر للسماء متعجبا يتسائل لماذا لا تظهر النجوم إلا ليلا , ترى أين تذهب في النهار
21 التعليقات:
رائعة السرد واللفظ
في جنبات كل كلمة كلمات ورمز لما خلق الكلمة..
قصة تصور حياة بنو البشر باختلاف وجهات نظرهم ورؤياتهم حول الحياة والموت
والنظرة العميقة للأشياء والتساؤل الذي لم يخلو من أي فقرة في النص
فيها دعوة بأن نصنع من العدم شيء محبب
ففي غياب الزيت لم نبقى جياع بل صنعنا طعاما شهيا
جعلت من الطفل رمزا للاحتجاج الودي وللاب رمزا للتفاهم واحتواء من هو أعلى لمن هو أسفل منه
لم تغب المرأة من الحياة بل دورها هو صناعة ما يصبو إليه الرجل وما يقترحه الإبن..طعام شهي
احتراق شهي ... عنوان شمل المحتوى و بعد النظرة .. وجعل من الألم شيء تشتهيه النفس
كل الود أخي مصطفى
الله يامصطفي الله
الله علي المعني وعلي الاسلوب وعلي المغزي وعلي الافكار لقد قرأت شيئا لم اقرأه منذ فترة طويلة جدا
احسنت ياصديقي العزي احسنت بكل ما في الكلمة من معني
الأحتراق الشهي
وبعدين في الفسلفه الرهيبه دي
يعني كل مره نقعد نفكر ونستمتع
كل بوست هديه تهديها الينا
معاني جميله عميقه
لكن تستمر النجوم في ضيائها
ولكن لا يراها الكثيرون
تحياتي
للاحتراق مزايا
بالآمس ليس بالبعيد
كانت تحترق الشمعة لتضئ لنا
كل عنوان تختاره يحتوى على مضمون أكثر روعة .. وسلاسة وحنكة .. تحياتي لقلمك النابض بالحياة
وانا صغيرة كنت استغرب اننا بناكل السمك مع انه ميت
وكنت استغرب جدا لما كانت دادة تحط الكابوريا صاحية علي النار وكنت مااخرجش من اوضتي يومها
وفضلت مااكلش كابوريا لوقت قريب جدا
:))
ومئات من الاسماك قد ماتت واخرى يتم شويها ولم تجد من يقدر ثمنها ولازالت البقية يخطط لشويها ايضا ولا مفر
ماشاء الله عليك سيف التدوين حفظ الله عليك خيالك وعقلك وحرفك الرائع
كما قال الاصدقاء كل يوم تهدينا تدوينة اكثر من رائعة
بارك الله فيك
تحياتى لك بحجم السماء
مسـاء المكان وما حوى
أديبنا الراقي
" مصطفى سيف الدين "
:
لكل شئ في هذه الدنيا حقيقة
وقد جمعت حقيقة الأشيـاء وما تحمله
من ذكاء و غبـاء و هـواء وحـواء !
لقد ألبست النص حُلة من جمـال السرد
برمزيات كثيفة في الصعود و الهبوط !
قصة حياة عمت لالئ الكلم وثمارها
سلم نبض القلب و القلم
وراعيهما .. ودٌ يعانقك .
..
..
..
أحمــ سعيـد ــد
الاحتراق الشهى
كفايه اصلا الاسم يعنى
حبيت فكرتها اوى يا مصطفى
وطريقتك كمان رائعه
تسلم ايدك :)
العنوان اصلا تحفة
كمان الفلسفة اللى فى القصة
و اسلوبك دايما مبهر
فعلا نحتاج الى الرماد لنحيا و الاحتراق حياة من الرماد تعود العنقاء .. وانا عمال اقرا بالقصه و انا عم اتخيل الهنود و هم يحرقون امواتهم اجد في نفسي مبررا لفعلتهم التي كنت اتعجب منها كثيراً !
:
راااااااائع كالمعتاد
دام عليك هذا الابداع
تحياتي
الموتى لا يعودون لكن احتراقهم يعيد الحياة للأحياء
لست بحاجة الى الرماد
يكفيك قلبا لا يلوثه اثم وقلبا أخر يبتسم حين يراك
بجد ما شاء الله عليك
روووووعة
تحياتى لاحساسك وابداعك
حقا رائع
الموتى لا يعودون ولكن احتراقهم يعيد الحياه للأحياء
ابدعت
تحياتى
الموتى لا يموتون لكن احتراقهم يعيد الحياة للأحياء
تعبير ضم بكلمات قليلة معانى كثيرة
انت يا مصطفى نبهتنا الى امور لم تكن غائبة عنا ولكن كنا نتغاباها
نتغابى ان السمك مبرمج لكى يقع فى سنارتنا لكى نحيى بموتاه بتكليف من مولاه
صدقت يا سيف وصدقت عباراتك التى تعبرنا الى عالم الحكم والاعتبار
الفاروق
الاحتراق الشهى
جذبنى العنوان جدااا فنحن نعلم ان الاحتراق دائما لا يكون شهى بل مميت
وعندما قرأت القصه جذبتنى لاخر حرف بعياراتها ومعانيها وفلسفتها الراقيه
بالفعل دائما تأتى بالجديد هنا
تسلم بنات افكارك يا دكتور
يبدو ان الاغبياء وحدهم هم من يخشون الإصابة بالغباء !!
أما الحكماء فهم من يصلون دوما لنتيجة على الاقل قد ترضيهم نسبيا..
وما بين الاثنين يختلف و يتغير منظور الحياة و الموت و مواجهة المصير أو الهروب منه او تغييره..
..
دوما فلسفة قصصك تصوغها بطريقة و اسلوب و كلمات سحرية تشد القارئ و تغرقه في بحر المغزى و الفكرة..تحياتي دكتور مصطفى
لك فلسفة خاصة
لا يجيدها الكقيرون لطالما كان في الاحتراق حياة
ولطالما كنا موتى من قبل أن يحل علينا الموت
لقد وصلت رائحة الاحتراق الشهي إلى مدينتي الصغيرة ..
دمت بخير
مصطفى سيف ..ابني العزيز اعود لأنهل من براعة يراعك وجمال اسلوبك وعمق معانيك ..انت قادر على ان ترفع عقولنا معك إلى غاية ادراكها فنشعر ان هناك اماكن في تلك الدماغ قد ازلت عنها الصدأ بكلماتك وكأنك ذاك الجواهرجي الذي يعيد البريق إلى اللآليء..عقولنا قبل قلوبنا تحييك وتشكرك على هذا الغداء اللذيذ والشواء الشهي ..
كلما رأيت لك موضوعًا جديد اجدني ابتسم .. اسعد كثيرا لرؤية جديدك فأنا قد تيقن عقلي بلذتها وروعتها ولم أقرأ لك موضوعا الا وقد أعجبني
أزادك الله ، ودمت مبدعًا دائمًا
امممم أحببت ان أشاركك ما أثارته تلك القصه في عقلي .. اتمني أن لا يزعجك فغرضي نبيل وهو اني لدي اعتقاد ان كاتب يحب رؤية ما أثارته كتابته في العقول ...
عندما قرأت تسأؤل الطفل لما لا يهرب السمك وهو يعلم انه سيتم اصطيادة ..
لاح في رأسي " كلًا ميسر لما خلق له " وهذه الأسماك مسخرة للبشر
وهناك من البشر من خلقة الله حرًا وأبي إلا أن يكون عبدًا سخر نفسه لعبادة ما خلق الله دون الله
أقنع نفسه بأنه اما الموت او الاصطياد ولم يعلم بأن هناك " المواجهة" وعندها اما الحياة بكرامة او الموت بشرف
------------------
اما عن الموت والإحتراق وكيف يشعر الانسان بالحياة عند رؤية الرماد
فقد اثار الكثير في .... عن كتاب وأدباء وفلاسفة عاشوا حياتهم يحترقون لأجل الناس ولم تعي الناس عنهم شيئًا ولما ماتوا جاء رمادهم ( ما خططته أقلامهم وهم أحياء ) ليعيدوا الحياة فينا بفنونهم وروعة تصويرهم ليعمقوا الفكر لدينا ولكن بعد ان فات الأوان لنكرمهم وهم أحياء
أحترت كثيرا في فهم رمزية البائع استغربت لخوفة الغريب من ان يصله الغباء من أكل سمكة اتهامها طيشًا بالغباء دون أن يعي رسالتها ؟!!
اممم أظن هذا ما ولدته في رأسي ناهيك عن استمتاعي بغزلك للكلمات في تناسق رااائع جعل قلبي يذكر " الله " عند بعض الفقرات
اتمني لك المزيد من التقدم والإبداع
مساء الغاردينيا أستاذ مصطفى
في حياتنا أمور لاتبدو شهية ولها مذاق مختف إلا بـ إحتراقها هذة التدوينة شملت أمور كثيرة بفلسفتك الخاصة المميزة "
؛؛
؛
لروحك عبق الغاردينيا
كانت هنا
reemaas
السلام عليكم...
هذه التدوينة بالذااااااااااات لها طعم آخر...
فهذه الأيام لا يمكنني تناول أي طعام سوى الأسماك أو المأكولات البحرية..
ربنا ما يوريك!
تقبل تحياتي...
إرسال تعليق