حاملا مسطرته ذات الجراب الأزرق و قدمه تصطدم بحقيبته الملقاة على الأرض و خلفه لافتة رخامية نحت عليها بالخط (الفارسي ) كلمة ( أسيوط ) ، كان ينظر إلى آخر الرصيف يترقب القطار القادم الذي سيعود به إلى بلدته ، لكنه تأخر كثيرا عن ميعاده لذا ظهر على ملامحه التوتر و الترقب و على أذنه التنبه حتى يمسع ممن حوله أي خبر مطمئن عن قدوم القطار فتناهى إلى مسامعه حديث شخصين على مقربة منه كان أحدهما يقول :
- بيقولك القطر خربان في العياط
- و هو في حاجة مش خربانة في البلد دية , كل حاجة واقفة ، الاسبوع اللي عدى كنت في مصر خدناها من مدينة نصر لرمسيس في اربع ساعات و عربيتنا تحت يدنا أومال لو مش معانا عربية كان إيا اللي حصلنا؟
- ما هو اللي عايشين في مصر عارفين الحقيقة علشان كده دلوكيتي سابوا عربياتهم و بقوا بيروحوا كل مشاويرهم على رجليهم في ( مسيرات )
ضحك الرجلان على النكتة التي لم تضحكه رغم أنه خبر ما تعني فكل ما كان يقلقه هو موعده و العطل بالعياط التي تبعد ساعات عديدة عن اسيوط يعني تأخرا مضاعفا له ، لم يفكر في البحث عن وسيلة أخرى للوصول لمنزله فقط انتظر ، حتى أضاء أول الطريق ضوء خافت لقطار يتهادى ، كأنه يقدم عجلة و يؤخر أخرى كمن هو قادم نحو حتفه ، نوافذه اصابها السرطان فصارت كأنها عيون بائسة تراقب بائسين .
هييء لنفسه مقعدا و جلس دون ان يلقي بالا لمن بجواره ، القطارشديد البرودة كأنه ثلاجة للموتى ، التكييفات تقوم بعملها بكفاءة قاتلة
صار يدلك ذراعيه بكفيه لعله يبعث في نفسه الدفء ، إلى أن رأى دخانا بلون الرماد يتصاعد من فوق كتف أحدهم يحمل مقطفا عليه ، ذلك المقطف تظلله بعض الأوراق على حوافه ، كان البؤس رفيق تجاعيد وجه البائع و الطين يطبع آثاره على أصابعه و صوته الأجش أقوى من كل محركات القطار و هو يقول :
- حمص سخن ، بليلة سخنة
لم يغريه النداء ، و لم يرهبه تلوث يد البائع أو صوته الأجش ، كان قانونه الداخلي ينص على أن كل بائعي القطارات مخادعين , لكن البرد كان أكثر فتكا من الخداع ، و دخان الرماد يبعث في النفس دفئا حتى و إن كنت بعيدا عنه ، لذا قرر أن يخوض التجربة و أخرج زوجا من الجنيهات ، ذلك الزوج لن يشتري له مصباحا يضيء غرفته و لن يشتري له كتابا يؤنس وحدته كل ما يشتريه هو بضع حبات من الحمص
- هاتلي باتنين جنيه
مد البائع يده الحرة للمقطف و أخرج من جانبه ورقة وضعها في يد المشتري ثم لم يلبث أن يمد يده المتسخة للمقطف و يقبض بها على حبات الحمص الساخنة و يضعها بالورقة ثم يمضي
بينما هو صار ينظر إلى الحمص و عينه تلمح بيت شعر على ورقة الحمص يقول :
نعم سرى طيف من أهوى فأرقني و الحب يعترض اللذات بالألم
لم يهتم و ظل يلتقم حبيبات الحمص و يرميها بجوفه ، لكنها كانت تصل لجوفه باردة ظن أنه خدع و ما ان فكرمش الورقة و كورها و ألقاها في السلة المعلقة على المقعد الذي أمامه ، و ما قطع حنقه هو صوت ياسين التهامي منبعثا من هاتف نقال و هو يقول : يا ملهمي من أنت ، أنت تعرف من أنا ... لم يكمل ياسين القصيدة فصاحب الهاتف النقال أخذ يرد ، و صوته يشتد و هو يصيح :
- ايوة اعمل فيها الهلالي مانت بعيد و البعيد عن العيطة شديد ، بقولك رحتله و عديت عليه و مرضيش يديني الفلوس
لم يوقف صياح الرجل إلا صياح بائع الحمص و هو يعود لذات العربة هنا وقف هو صائحا :
- إنت يا بتاع الحمص تعالى ، انت بتضحك عليا الحمص بتاعك بارد
- كيف بارد يا استاذ انتا مش شايف الدخانة؟
- ماليش دعوة كل ما احط في خشمي واحدة منه بالاقيها باردة
- لو حطيت نقطة مية سخنة على لوح تلج هتعمله حاجة؟
لم يتمالك الطالب نفسه فاندفعت يداه بقوة لتلابيب جلباب الرجل النيلي ذي خطوط زرقاء
- إنتا قصدك إن أنا راجل بارد ؟ إنت قليل الأدب و مش مرباي
- يا بيه مش قصدي بس الجو برد قوي بلاش تاكله واحدة واحدة ، اشتري أكتر و حط في جوفك اكتر
فكر , ماذا يمكن أن تفعل خمسة من الجنيهات؟ ربما تستطيع شراء مصباح ينيرله الطريق لكنها لن تشتري له عينا يرى بها نور المصباح ، كل شيء بخلاف صحته هو رخيص و عليه أن يصون نفسه من البرد ، أخرج الخمس جنيهات و نقدها للبائع الذي أعطاه ورقة من المقطف و وضع عليها الحمص الذي امتزجت فيه حبات سوداء مع الصفراء ، لمحت عيناه بيوت من الشعر تقول :
و النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع و إن تفطمه ينفطم
و اصرف هواها و حاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
اختلطت حبات الحمص بالطباعة السيئة للأبيات و هو يلتهمها بلا رحمة ، قبل أن يظهر عليه الغضب و هو يصيح :
- تاكل ابوك يابن الكلب يا حرامي برضه الحمص بارد
هنا تعالت ضحكة أنثوية غنجة كانت تلك اول مرة يلحظ أن المقعد الذي بجواره تجلس عليه أنثى رائعة تحمل في يديها بعض الكتب التعليمية ، ما إن رآها حتى تطايرت منه الألفاظ السوقية باللهجة الصعيدية الخشنة ، ليتبدل حرف القاف لديه بالهمزة , و الجيم العطشى بالقاف الصعيدية ، بينما حذف من معجمه الجيم المتعطشة للندى الممتلئة بالغلظة ، و استبدل وجهه المحمر بالغضب بوجه أحمر بالخجل و قال برقة :
- تتفضلي حمص ؟
كانت هي أيضا تتصنع الرقة و هي تقول :
- ميرسي ، مبحبوش
- ليه ؟ ده جميل على فكرة كمان بيشيل النكد ، لي أخ كل ما يلائي نفسه مخنوء و متضايئ يقول ل(ماما) اعمليلي حمص علشان يزيح الغم
ضحكت ضحكتها الغنجى فما كان منه إلا أن اقترب منها أكثر و هو يقول :
- هو انتي منين؟
- سوهاج و انتا
- طهطا ، و في كلية هندسة و إنتي؟
- حئوء
- بس بتوع حئوء مبيحضروش إيه اللي موديكي؟
- علشان الحذف
- الدكتور حذفلكم كتير؟
- آه حذف الحئوء المدنية و حئوء الانسان و سابلنا تلات صفحات هنمتحن فيهم مفيهمش غير الخلع
- أكيد كلكم بتنقحوا ( القاف = جيم صعيدية لا تنسى إنه يتكلم بلغة أهل القاهرة )
- و لا الهوا كلنا بنسئط برضه
- هو أنتِ في المدينة الجامعية؟
- لا آعدة عند خالي في النميس , و إنتا؟
- أنا مع اصحابي في الميدوب ، على بعد خطوة من العالم التاسع (الئيصرية )، أسيوط دي غريبة خطوة واحدة بتفصلك عن عالمين
صار يحدثها عن القصيرية ، عن ضيقها و ازدحامها عن الرجل لا يرى موضع أقدامه ، فتحدثه عن النميس عن الهدوء و النظافة عن الشوارع التي توحي إليك أنها خالية من فرط اتساعها
صار يحدثها عن القصيرية حيث الكتب تباع بالكيلو و الباعة الجائلين على سيماهم الهم ، و السيدات يتشحن بسواد و على صدورهن أطفال لا يجدن فيها لبنا ، فتحدثه عن النميس عن بداياته حيث مسجد ناصر محتضنا كنيسة الملاك ، حيث القصور العتيقة المعبقة برائحة التاريخ و في نهايته حيث تمثال أم البطل
قال لها :
- النميس و الئيصرية عمرهم ما هيتلائو بس احنا هنشوف بعض مش كده ؟
- أكيد
- طيب بصي انا مش هاقيلك حئوء و لا إنتي تقيلي هندسة إحنا نتئابل في أرض محايدة ، الخميس القاي نروح معرض منتقات كلية الزراعة بيعملوا هناك بليلة باللبن و المكسرات تاكلي معلئتك وراها ، بيس؟
- بس اللي أعرفه ان المعرض ده اتلغى من سنين و بطلوا يعملوا بليلة
- كيف يعني؟ دانا لسه واكل منـ.... ( قالها بالصعيدية فلم يستطع أن يتحكم في لهجته و هو متعجب)
لم تستطع أذنه أن تستمع لما يقوله لسانه فالضوضاء تشتد من حوله داخل عربة القطار و الصداع يزداد و المشاهد المرعبة تصيبه بالعمى
يا ملهمي من أنت أنت تعرف من أنا ، أنا راجل بارد !! دخان الرماد ، الحب يعترض اللذات بالألم ، حمص سخن بليلة سخنة ، إنت قليل الأدب و مش مرباي ، مفيهمش غير الخلع ، البعيد عن العيطة شديد ، بيروحوا مشاويرهم في مسيرات ، النفس كالطفل ،خطوة بتفصلك عن عالمين ، عيون الزجاج المسرطنة
الصداع يشتد يغمض عينيه و يصرخ فيفتحهما
ليجد نفسه مازال في القطار لكنه ليس نفس القطار و ليس نفس الزمان ، ينظر بجواره فلم يجدها بل وجد رجلا آخر و ينظر تجاه النافذة من زجاجها المتهتك هناك حيث الشمس تقاوم عمودا خرسانيا لتظهر من خلفه إلا أن سرطان الزجاج و الأسياخ الحديدية للعمود يظهر كأن الشمس حبيسة يتذكر أن أعواما مضت منذ كان في الجامعة باسيوط والآن هو في طريقه للعودة من القاهرة فيتوجه بالحديث للرجل بجواره
- هو احنا فين ؟
- في العياط
- ليه القطر واقف ؟
- مش عارف ناس بتقول في اضراب و ناس بتقول بيصلحوا السكة و ناس بتقول في قطر عطلان قدامنا بس بصراحة حاسس ان قطرنا هو الخربان
يخرج هاتفه النقال و يتمنى أن يكون تحت تغطية الشبكة و ألا يصبح خارج التغطية كأمور كثيرة في تلك البلد ، ضغط على الأزرار و سمع صوتا أنثويا من الجهة الأخرى فقال :
- أمّاه , متخافيش القطر هيتأخر شوية ،يمكن أكون عندك العصر عاوز اقولك بس إني بحبك قوي يا أما و عاوزك تعمليلي حمص على الغدا علشان نفسي أفرح
قالها و أغلق الهاتف بينما القطار بدأ في السير بتؤدة مرة أخرى نحو مثواه الأخير
----------------------------------------------
القيصرية و النميس : منطقتين بأسيوط
البعيد عن العيطة شديد : مثل يعادل اللي إيده في المية مش زي اللي ايده في النار
البوست باللهجة الصعيدية لذا حاول أن تقرأه بالصعيدي
هذا البوست اهداء لصديقي
ابراهيم رزق
---------------------------------------
أشكر كل من شرفني بالحضور في حفل توقيعي ، و من لم يحضر لا يعتذر فقط كنت أتمنى من رؤية الجمع الطيب
كانت ليلة رائعة شاركتني فيها صديقتي و زميلة الصيدلة و المعطف و الأبجدية و الصندوق الدكتورة شيرين سامي ، استمتعت بالنقاش الراقي حيث تحدثنا عن أحوال الأدب و النشر و تطرقنا بالحديث عن الرمزية و الفارق بين القصة القصيرة و الرواية و الفارق بين النشر الجماعي و النشر الفردي ، و عن الفارق بين الأقلام النسائية و الرجالية ، تطرقنا للحديث عن ذاتية الكاتب و كيف تشعر بوجودها ، تحدثنا عن أحلام لعالم ورقي نظيف بعيدا عن دور النشر المتربحة ، عن الكتابة الصعيدية و لماذا اخترت الرمز
تحدثنا كثيرا جدا حتى أننا انتهينا من الحفل في حوالي العاشرة ، بالرغم أن قطار العودة كان ميعاده في الحادية عشر و الربع إلا أنني لم استطع اللحاق به من القاهرة لكنني استطعت اللحاق به في الجيزة
اشكر كل من شاركني الحفل و اخص بالذكر و ليس الحصر و بدون ألقاب فليست هناك ألقاب تفيكم
الادارة الراقية للحفل من محمد فاروق الشاذلي حتى تشعر أنك أمام محاور مبدع يفهم كيف يوجه دفة الحديث (زي ما بيقولوا الحكم كان لاعيب كورة اقول من اسباب جمال الحفل ان المحاور مبدع و قاص )
الاستاذة منى ماهر كانت ارائها و قرائتها للكتب جيدة جدا كما أنها سلطت الأضواء على بعض النقاط التي جعلتنا نستطيع أن نتوغل في الحديث إلى ما بعدها
محمد الوكيل الذي تحدث عن تجاربه في الكتب الجماعية تشرفت بمعرفته رغم رحيله المبكر فقد أتى من طنطا خصيصا
الرجل الذي أتى متأخرا محمد الجيزاوي و اشكره بصفة شخصية على حديثه الرائع بالامس عن كتابي و عن طريقة السرد لدي
الناشر فتحي المزين و دفاعه عن دور النشر رغم عدم اقتناعي بما قال و ساظل اقولها دور النشر هي السبب في كساد الحركة الأدبية
كانت حقا زمرة طيبة سعدت بلقاء مفاجئة الحفل شموسة التدوين شمس النهار اللي أحالت ظلمة ضوئي الأسود إلى سراج منير
بهاء طلعت ذو الوجه الصبوح ، قد تختلف معه فكريا إلا أنك لا تستطيع إلا ان تقول أنه يحمل نورا بين عينيه
ريم سعيد مش هاقول غير ان الشيكولاتة اللي جبتيها مالهاش حل ، دي منين بقى؟ بجد أسعدتني طلتها الرقيقة و شيكولاتاتها اللذيذة
غادة محسن الراقية الهادئة زميلة النوافذ و الأبجدية و الصندوق
غادة قدري أيضا تشرفت برؤيتها لأول مرة و هي صاحبة مجموعة قصصية بعنوان المغتربة
نهى الماجد زميلة الأبجدية و الصندوق و النوافذ تلك الكاتبة التي تحمل مستقبلا أدبيا زاخرا
تشرفت ايضا برؤية المبدعتين غادة محمد و رباب محمد رغم رحيلهما المبكر من الحفل كنت أتمنى أن نحظى بوقت أطول
و لا ننسى الرائعة فاطمة عبد الله التي استضافتنا لديها في الراديو و التي أصرت أن نسمع شعرالدكتورة شيرين ، اشكرك يا فاطمة فالشعر المسموع يمنح احساسا اقوى من المقروء
كما اشكر الصديقة دينا ، و هناك كان اشخاصا لم اتشرف بمعرفتهم لرحيلهم المبكر اشكرهم ايضا كثيرا على الحضور
أما ساليناز فاتمنى ان يكون الجلاب أعجبها ، ذلك الجلاب الذي حين رأته شموسة قالت إيه ده قلة ؟ ( تسييح تسييح اهوه يا شموسة )
أما الصديقان ابراهيم رزق و اسامة الأزهري فلن تفيكم كلماتي ( انتو عارفين بقى اللي في القلب ، و انت بالذات يا ازهري فين الشيكولاتة ؟ )
شكرا لكم كانت ليلة من ألف ليلة